الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعًا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله تعالى أن يقولوا شعرًا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار، وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين الشعر، وكذا كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فمن شعر أبي بكر رضي الله تعالى عنه:
ومن شعر عمر رضي الله تعالى عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة: وقوله يروى للأعور الثنى: ومنه وقد لبس بردًا جديدًا فنظر الناس إليه، ويروى لورقة بن نوفل من أبيات: ومن شعر عثمان رضي الله تعالى عنه: ومن شعر علي كرم الله تعالى وجهه وكان مجودًا حتى قيل: إنه أشعر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم يذكر همدان ونصرهم إياه في صفين: وقد جمعوا ما نسب إليه رضي الله تعالى عنه من الشعر في ديوان كبير ولا يصحح منه إلا اليسير، ومن شعر ابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما وقد خرج على أصحابه مختضبًا: ومن شعر الحسين رضي الله تعالى عنه وقد عاتبه أخوه الحسن رضي الله تعالى عنه في امرأته: ومن شعر فاطمة رضي الله تعالى عنها قالته يوم وفاة أبيها عليه الصلاة والسلام: ومن شعر العباس رضي الله تعالى عنه يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن شعر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما: وهلم جرا إلى حيث شئت، وليس من بني عبد المطلب كما قيل رجالًا ولا نساء من لم يقل الشعر حاشا النبي صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك أبلغ في أمره عليه الصلاة والسلام، ولأجلة التابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وفقهاء المسلمين شعر كثير أيضًا، ومن ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: والاستقصاء في هذا الباب يحتاج إلى إفراده بكتاب وفيما ذكر كفاية، وقد مدحه أيضًا غير واحد من الأجلة فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه الشعر ميزان العقول.وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله تعالى فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحًا خير من أن يمتلىء شعرًا» حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش، وروى نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيمتلىء جوف أحدكم» الحديث فقالت: رحم الله تعالى أبا هريرة إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن يمتلىء جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلىء شعرًا» من الشعر الذي هجيبت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلًا عن كتاب بستان الزاهدين، ولا يخفى أنه يبعد الحمل المذكور التعبير بيمتلىء فإن الكثير والقليل مما فيه فحش أو هجو لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم سواء، وما أحسن قول الماوردي: الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطرارًا لم يكن جرحًا أو اختيارًا جرح، وتبعه على ذلك الروياني وجعل الروياني ما فيه الهجو لمسلم سواء كان بصدق أو كذب من المحظور أيضًا، ووافقه جماعة إلا أن إثم الصادق أخف من إثم الكاذب كما قال القمولي وإثم الحاكي على ما قال الرافعي دون إثم المنشد، وقال الأذرعي: ليس هذا على إطلاقه بل إذا استوى الحاكي والمنشد أما إذا أنشده ولم يذعه فأذاعه الحاكي فاثمه أشد بلا شك، واحترز بقيد المسلم عما فيه الهجو لكافر فإن فيه تفصيلًا.وفصل بعضهم ما فيه الهجو لمسلم أيضًا وذلك أن كثيرًا من العلماء أطلقوا جواز هجو الكافر استدلالًا بأمر صلى الله عليه وسلم حسانًا ونحوه بهجو المشركين، وقال بعضهم: محل ذلك الكفار على العموم وكذا المعين الحربي ميتًا كان أو حيًا حيث لم يكن له قريب معصوم يتأذى به، وأما الذمي أو المعاهد أو الحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله الأذرعي وابن العماد وغيرهما؛ وقالوا: إن هجو حسان وإن كان في معين لكنه في حربي، وعلى التنزل فهو ذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون عن القرب فضلًا عن المبحات، وألحق الغزالي وتبعه جمع المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من حجهته، وجوز ابن العماد هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن، وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الأخيرين محله حيث لم يتجاهر أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه بمال تجاهر به فقط لجواز غيبته بذلك فقط.وقال البلقيني: الأرجح تحريم هجو المتجاهر المذكور لا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم.ورد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير محترم ولا مراعى فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه.نعم لو قيل بحرمة إنشاده بعد التوبة إذا كان يتأذى به هو أو قريبة المسلم أو الذمي أو بعد موته إذا كان يتأذى به من ذكر لم يبعد، وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضًا ما فيه تشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامأرة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش ولم يفرقوا بين إنشاء ذلك وإنشاده، واعتبر بعضهم التعيين في الغلام كالمرأة فلا يحرم التشبيب بمبهم.قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جدًا، وقال أيضًا: يجب القطع بأنه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئًا من التشبيهات الظاهرة أنه لا يضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءًا.وفي الأحياء في حرمة التشبيب بنحو وصف الخدود والإصداغ وسائر أوصاف النساء نظر، والصحيح أنه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوت وغير صوت، وعلى المستمع أن ينزله على امرأة معينة فإن نزله على حليلته جاز أو على غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع، وذكر بعض الفضلاء أن ما يحرم إنشاؤه قد لا تحرم روايته فإن المغازي روى فيها قصائد الكفار الذين هاجوا فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر ذلك أحد، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم إذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يومي بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية انتهى، قال الأذرعي: ولا شك في هذا إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة إليه، وقد ذم العلماء جريرًا والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على إعراب وغيره من علم اللسان، ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى إنشاد شعر شعراء العصر إذا كان إنشاؤه حرامًا إذ ليس فيه إلا أذى أو وقيعة في الأحياء أو إساءة الأحياء في أمواتهم أو ذكر مساوي الأموات وغير ذلك وليس مما يحتج به في اللغة ولا غيرها فلم يبق إلا اللعب بالأعراض، وزاد بعض حرمة شعر فيه تعريض وجعل التعريض في الهجو كالتصريح وله وجه وجيه.وقال آخر: إن ما فيه فخر مذموم وقليله ككثيره، والحق إن ذلك أن تضمن غرضًا شرعيًا فلا بأس به، وللسلف شعر كثير من ذلك وقد تقدم لك بعض منه، وحمل الأكثرون الخبر السابق على ما إذا غلب عليه الشعر وملك نفسه حتى اشتغل به عن القرآن والفقه ونحوهما ولذلك ذكر الامتلاء، والحاصل أن المذموم امتلاء القلب من الشعر بحيث لا يتسع لغيره ولا يلتفت إليه.وليس في الخبر ذم إنشائه ولا إنشاده لحاجة شرعية وإلا لوقع التعارض بينه وبين الأخبار الصحيحة الدالة على حل ذلك وهي أكثر من أن تحصى وأبعد من أن تقبل التأويل كما لا يخفى وما روى عن الإمام الشافعي من قوله: محمول على نحو ما حمل الأكثرون الخبر عليه وإلا فما قاله شعر، وفي معناه قول شيخنا علاء الدين علي أفندي تغمده الله تعالى برحمته مخاطبًا خاتمة الوزراء في الزوراء داود باشا من أبيات.
|